أَسْكنُ أنا وأبي وأمي وأخوتي الصغارُ الخمسةُ وجدي وجدتي في غرفتين ، فَنُقَسِّم أنفسَنا ، فأبي وأمي وجدي
وجدتي في غرفة وأنا وباقي أخوتي الخمسة في الغرفة الأخرى .
أنا أكبرُ أخوتي طالبٌ بكليةِ الطِّب ، وأصغرُنا عاصم بالصف الثالثِ الابتدائي ، فأجلس في ركنٍ من أركانِ الغرفةِ ،
وأذاكر محاضراتي حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل ، فما أن يبدأ الليلُ ، إلا وتبدأُ معه ألحانُ أسرتي الموسيقيةِ الجميلةِ ،
فكلهم يغردون في نَفَسٍ واحدٍ تقريبًا بدءًا بعاصم الذي يفتتحُ الشخيرَ بمقطوعةٍ صغيرةٍ ، وانتهاءً بجدي ،
قائدِ الفرقة الموسيقية الكبيروالعازفِ الأكبرِ، أما أنا فأشعرُ أني في بحرٍ متلاطمٍ ، كلما حاولتُ التركيزَ في مذاكرتي ،
كلما فشلتُ فشلًا ذريعًا، فأظلُّ متابعًا هذه الأصواتِ المزعجةَ حتى الصباح .
وعندما ذهبت للمستشفى ، وكنت أنظفُ جُرحَ أحدِ المرضى ، وأضعُ لاصقًا طبيًا عليه ، خطرت فكرةٌ على بالي ،
وهي وضعُ لاصقاتٍ طبيةٍ على أفواهِ أخوتي الصغار ، وخلعها من على أفواههم أولَ الصباحِ ، وبذلك أستطيعُ
المذاكرةَ ليلًا ،أما أصوات الغرفةِ الأخرى سأتحمُّلها رغمًا عني ، إذ يصعبُ وضعُ اللاصقةِ على فمِّ أبي أو
أمي فقد يصحوأحدُهما ، ويجعلها ليلةً سوداءً عليَّ ، وبالفعلِ اشتريتُ خمسَ لاصقاتٍ وبدأتُ بأصغرِنا عاصم ،
ثم كدتُ الانتهاءَ من وضعها على أفواهِ أخوتي وفي الفمِ الأخيرِ وكان فمُ أخي حامدٍ حيث كان يتميز
باتساعة فيحتاج للاصقتين على الأقلِّ ووقتًا ومجهودًا إضافيين ، فالتفتُّ فإذا بأبي خلفي ، يصيحُ بي
صياحًا أرعَبَني ، وطلبَ مني نَزْعَها من على أفواه أخوتي بسرعةٍ .
وحمدت اللهَ أن أبي لم يمدّْ يدَه عليَّ بالضربِ، وظللتُ طوالَ الليلِ أسمعُ عاصم وهو يغردُّ فتردَّ
سناءُ ثم يقاطعهما أحمدُ ، فيفاجأَهم حامدٌ بنبرةِ حادةِ ثم تتدخلُ أمي من الغرفةِ الأخرى بمقطوعةِ
شخيرِ غاية في الإزعاجِ ، ثم يهجمُ أبي هجمةً شرسةً ، فتدافع جدتي عن حقها فتدخل هي الأخرى ،
بعد أن يكون جدي له قصبُ السبقِ .
وأظلُّ أنا طوالَ الليل ، أفرزُ أصواتِ أسرتي وأعدُّ النقاطَ واحتسبُ ركلاتِ الجزاءِ وأشواطَ المباراةِ
والوقتَ بدلَ الضائعَ بذهابِ أحدِهم إلى الحمامِ ثم عودته إلى السريرِ مرةَ أخرى ، كل هذا والمذاكرةُ
أو النوم لم يعرفا طريقًا لي والامتحاناتُ على الأبوابِ !!
اقترحَ صديقي ماجدُ في الجامعة أن أشتري سدادتين للأذن ، أضعُهما عندما يبدأُ الضربُ في المليان ،
فاشتريت السدادتين وعندما بدأتْ طلقاتُ الخرطوشِ تتابع وصوتها يعلو ، وضعتُ السدادتين بقوةٍ
في أذني لدرجةِ أنَّ إحداهما لم أستطعْ إخراجها في الصباحِ ، حاولت كثيرًا ولم أستطع ،
وآلمتني بشدة ، ودعوتُ على صديقي ماجد دعوةً لو أن باب السماءِ كان مفتوحًا لأصابته ،
وكنت أصرخُ من ألمها ليلاً ونهارًا ، ولم أستطعْ النومَ ولا الذهابَ للجامعة ، وسبَّبت لي صداعًا مزمنًا،
ولم أذهب لمحاضراتي وجلست في الغرفةِ وحيدًا ، لا أسمع إلا بأذنٍ واحدةٍ ، فبدلًا من أسمع شخيرهم
بأذنين أصبح العذابُ كلُّه منصبًا في أذنٍ واحدةٍ .
اصطحبني أبي لمستشفى الجامعة حيث قرَّر الطبيبُ إجراءَ جراحةٍ عاجلةٍ لإخراجها من أذني وإلا فقدتُ السمعَ .
حجزتني المستشفى وأنا في حالة يُرْثى لها ،وكانت أمنيتي الوحيدةُ قبل دخولي غرفة العملياتِ أن أرى صديقي
ماجدًا ولو لحظةٍ واحدةٍ ، وأجرى الطبيب جراحةً عاجلةً في أذني ، واستخرجَ السدَّادةَ منها ، وعدُّت إلى البيت
بعد أن عنَّفني أبي تعنيفًا لاذعًا ، وعدّْت في ركنِ الحجرةِ وأنا أكثر شوقًا واستمتاعًا لسماع شخير
أسرتي بأذنيَّ الاثنتين واحتسابِ الوقتِ بدلَ الضائعِ ، بعد أنْ عاد لي سمعي مرة أخرى .
بقلم
عبد الله لماضة
تحرير
سعاد عدوش